البرنامج العربي للوعي بالابتكار
GINI North Africa Chapter Logo-03

الابتكار طيف واسع وأوجه متعددة

مقال ضمن مبادرة مائة مقال للبرنامج العربي للوعي بالابتكار

بقلم: أ. محمد حسيب عبد اللطيف يونسو

منذ أيام دراستي الجامعية الأولى قبيل منتصف الثمانينات من القرن الماضي شدني اهتمام العلماء العرب بعلم الميكانيكا وقد لعبت الصدفة دوراً أو لعلها الأقدار عندما وقع تحت يدي مخطوط محقق لعلم الحيل لإخوة بني موسى (أحمد ومحمد وحسن) وهو عمل ضخم تضمن العديد من الآلات ذاتية الحركة وكذلك العديد من التطبيقات للسوائل و علم الترموديناميك وهي كلها تستهدف شأن المخترعات التكنولوجية الحديثة جعل أداء الأعمال أسهل وتحل مشاكل يومية لحاجات متفاوتة في الأهمية منها ما انتشر بسرعة عبر تلاقي الثقافات وتشابه الاحتياجات البشرية، ومنها ما تأخر انتشاره لضعف الحاجة إليه أو ربما لأسباب ليس من أهمها عدم وصول المعلومة لمن يستفيد منها ويعمل عليها.

وقبل أيام كنت في ملتقى أيام العربية في جزيرة السعديات في أبوظبي حيث تم استدعاء التاريخ عبر فعاليات ثرية متعددة في اللغة والعلم والأدب بحضور لفيف من فرسان الكلمة وصناع الثقافة وحراس اللغة ومما أثار لدي التساؤلات حول علاقة ابتكار الأجناس الأدبية المستحدثة بالأفكار الجديدة والمعاني المبدعة.
ففي زمن الشطار والمحتالين الذي ترافق مع تطور مجتمع المدينة واحتكاكه بالمجتمعات البدوية والريفية المحيطة، نشأت طبقة من الذين يستخدمون حيلة جديدة كل مرة للحصول على بغيتهم من المغفلين والحمقى وعديمي الخبرة.

تميز هؤلاء بقراءة الحالة واختيار الضحية ومعرفة كيفية استدراجها إلى منطقة الحبكة ومن ثم الانسحاب بالغنيمة قبل أن يفيق المغفل إلى الورطة التي وقع بها.

وبغض النظر عن أخلاقية هذا العمل فقد كان الوصول للغاية مبرر لديهم مما يعد مكيافيلية (الغاية تبرر الوسيلة)؛ ولم يكن من المناسب استخدام قالب أدبي كالقصيدة والخطابة لهذا العمل المرذول عرفاً والمنكر ديناً، فكان من الطبيعي ابتكار لون من الأدب يناسب هذه الحكايات ويضفي عليها قالباً من الظرف وخفة الدم تقلل من استنكار المجتمع بقيمه العليا وتقاليده العريقة وتمهد لقبول نوع من التسامح مع النذالة بمبرر الحاجة، وبتزيين المسألة بنوع من الإضحاك وحس الفكاهة والسخرية.

هذا هو إذا ما عرف بفن المقامة الذي وصفت كل واحدة منها حيلة عجيبة وغريبة لكن أهم ما فيها أنها جديدة، ففي المقامة الأرمنية يتفق محتالون على أن الشاب المتوفي فاقد للوعي وأنهم سيعيدون إليه وعيه ويحذرون ذويه من دفنه بعد إقناعهم أنه حي، ويحصلون على الفضة والذهب وعند انكشاف حيلتهم يستغلون انشغال الأهل بتجهيز ميتهم ويهربون بغنيمتهم.

وكذلك يقرأ المحتال في المقامة البغدادية غفلة السوادي وجوعه وتعبه ويوهمه بمعرفة أبيه ليتناول وجبة فاخرة وحلوى رائعة دون أن يتكلف بدانق، وهكذا تمضي المقامة بنا في رحلة من التشويق والجدة والحداثة والابتكار ما يرفه عن السامع ويطرد السأم ويصنع الابتسامة على الشفاه.

وبالعودة إلى علم الحيل نقول إن كان هذا المخطوط الذي تم إنشاؤه سنة ثمانمائة وخمسون قد وصلنا فقد ضاع من أمثاله الكثير؛ فقد تعرض إرث بغداد الثقافي للنهب والحرق والإتلاف في نهر دجلة كما ذكر المؤرخون وكذلك فإن حريق مكتبة الإسكندرية أتى على كثير من ذلك ناهيك عما تعرضت له كنوز الأندلس المعرفية من الدمار.

إن ذلك يجعلنا نشعر باتساع الفجوة بين الابتكار الحضاري القديم والحديث وضياع الكثير من الإبتكارات التي كان من الممكن أن تجعل حياتنا أفضل، فهل البحث والتنقيب عن المصادر والمخطوطات القديمة جهد يستحق ما يبذل من أجله من وقت ومال؟
أم أن هناك رأياً آخر وسؤال جديد برسم الإجابة؟